كتبت – أحمد زكي : في مشهد يتكرر على مسارح الفرح المصري، تمتد يد نسائية لترشّ الملح على رؤوس الحاضرين، تصحبها عبارة تُقال بحسم ووداعة: “حصوة في عين اللي ما يصلي على النبي”. لا يقتصر هذا الطقس على الأحياء الشعبية أو الريف، بل يمتد إلى قاعات أفراح الفنادق الفاخرة في المدن الكبرى. من النظرة الأولى، يبدو المشهد كأنه طقس فولكلوري بسيط، لكن خلف هذا الفعل العفوي تقف قرون من التاريخ والمعتقدات والممارسات الاجتماعية المتجذرة، والتي تقدم فرصة حقيقية لتطوير مسار متجدد في السياحة الثقافية المصرية.
جذور طقس رشّ الملح: من المعابد إلى الأفراح.
تشير الأدبيات الأنثروبولوجية إلى أن طقس رشّ الملح ليس مستحدثًا، بل تعود جذوره إلى الممارسات الدينية في مصر القديمة، وتحديدًا في الطقوس الجنائزية. كان الكهنة يرشّون الملح في النيران لإصدار أصوات فرقعة، اعتُبرت “انفجارًا رمزياً” لطرد الأرواح الشريرة. واستخدم المصريون القدماء الملح أيضًا في التحنيط والتطهير وصناعة الزجاج والأدوية ومستحضرات التجميل، مثل ملح النطرون الذي كان أساسيًا في حياة المعابد والقصور.
الملح في الثقافة الشعبية: الحماية من الحسد.
على مدار قرون، حافظ المصريون على هذا الإرث الرمزي، فأصبح الملح عنصرًا شعبيًا في طقوس الاحتفال، خاصة في المناسبات السعيدة. رشّه في الأعراس، عند افتتاح منزل جديد، أو حتى للاحتفال بتخرج طالب أو نجاح موظف، يعكس اعتقادًا راسخًا بأن الملح يصد “العين” ويجلب البركة. تقول “أم منى”، من مدينة الأقصر، “الملح بيبعد الشر، بنرشه بنية صافية عشان نفرح من غير ما حد يحسدنا.”
الطقس بين الأحياء الراقية والمناطق الشعبية.
ما يلفت النظر أن طقس رشّ الملح لم يعد مقتصرًا على بيئة محددة، بل بات مشتركًا بين مختلف الطبقات الاجتماعية. ففي أفراح طبقة رجال الأعمال بالقاهرة، قد تجد سيدة ترتدي فستانًا من أحدث صيحات الموضة، تمسك بكف من الملح وتؤدي الطقس ذاته. هذا الامتداد عبر الطبقات والمناطق يجعل من الطقس ظاهرة ثقافية متماسكة قابلة للدراسة والتوظيف السياحي.
طقس محلي، وفرصة سياحية عالمية.
مع تنامي الطلب العالمي على “السياحة التجريبية” و”السياحة الثقافية”، بات الاهتمام بتوثيق الممارسات التراثية الحية أولوية لدى وجهات سياحية عديدة. مصر، بما تملكه من تنوع مذهل في الطقوس الشعبية، تمتلك فرصة ذهبية لتقديم محتوى ثقافي حيوي للسياح، خاصة من المهتمين بالفولكلور والمعتقدات الشعبية.
وتشير بيانات منظمة السياحة العالمية (UNWTO) إلى أن نحو 40% من السياح الدوليين في 2023 اختاروا وجهات تقدم تجارب ثقافية أصلية، ما يعني أن طقوسًا مثل رشّ الملح قد تصبح عنصرًا جاذبًا إذا جرى تقديمها ضمن سياق سياحي مدروس.
الخبراء قالو.
يقول الدكتور أحمد عبد السلام، أستاذ الأنثروبولوجيا بجامعة القاهرة، “رشّ الملح ليس مجرد عادة، بل هو تعبير حيّ عن الذاكرة الجماعية للمصريين. توظيف هذا الطقس في السياحة يتطلب حساسية ثقافية واحترامًا لأصوله الرمزية.”
في المقابل، تشير الأستاذة نجلاء عز الدين، باحثة في التراث الشعبي، إلى أن توثيق الطقوس الشعبية لا يجب أن يكون لأغراض العرض فقط، بل يجب أن يصاحبه سرد ثقافي يعمق فهم الزائر لطبيعة المجتمع المصري.
نتائج
طقس رشّ الملح يُعد من الطقوس الشعبية المتجذرة التي تحمل دلالات رمزية تعود إلى مصر القديمة.
يتم ممارسته في مختلف الطبقات والمناطق، ما يجعله مكونًا ثقافيًا جامعًا في الهوية المصرية.
توجد فرصة كبيرة لتوظيفه في مسارات السياحة الثقافية والتجريبية في مصر، خاصة في محافظات الصعيد والدلتا.
توصيات
توثيق الطقس ضمن مشروع وطني لحفظ التراث غير المادي.
تصميم برامج سياحية تضم مشاهد حية من حفلات زفاف أو احتفالات محلية تتضمن رشّ الملح.
تقديم الطقس ضمن عروض تراثية في المتاحف المفتوحة والمهرجانات المحلية، دون إخلال بسياقه الأصلي.
دعم تدريب المرشدين السياحيين لتقديم معلومات ثقافية معمقة حول هذه الطريقة
مرإة لعكس التواصل بين الأجيال
رشّة الملح في الأعراس المصرية ليست مجرد حركة تقليدية، بل مرآة تعكس تواصل الأجيال مع الماضي، واستمرار طقوس الأجداد في حياة الأحياء. بين القداسة الفرعونية والمعتقد الشعبي، وبين السياحة المعاصرة والذاكرة الجمعية، تبرز هذه العادة كرمز ثقافي يحمل في طياته فرصة ثمينة: أن نروي للعالم قصة مصر، ليس فقط من خلال الأهرامات والمعابد، بل عبر تفاصيلها الصغيرة التي تُمارس بصدق ومحبة وفرح.
اقرأ أيضًا:
 Tourism Daily News أهم أخبار السياحة و السفر
Tourism Daily News أهم أخبار السياحة و السفر
				 
			 
		 
						
					 
						
					 
						
					